دليل الثقافة الغذائية

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    من بداية خلافة عمر إلى ختام سنة ثلاث عشرة

    avatar
    دليل
    Admin


    المساهمات : 2095
    تاريخ التسجيل : 24/02/2014

    من بداية خلافة عمر إلى ختام سنة ثلاث عشرة Empty من بداية خلافة عمر إلى ختام سنة ثلاث عشرة

    مُساهمة من طرف دليل الإثنين 29 أبريل 2019 - 12:13

    من بداية خلافة عمر إلى ختام سنة ثلاث عشرة Alathe10

    بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
    أحوال البلاد وأخبار العباد
    من بداية خلافة عمر إلى ختام سنة ثلاث عشرة
    من بداية خلافة عمر إلى ختام سنة ثلاث عشرة 1410
    ● [ ذكر استخلافه عمر بن الخطاب ] ●

    لما نزل بأبي بكر، رضي الله عنه، الموت دعا عبد الرحمن بن عوف فقال: أخبرني عن عمر. فقال: إنه أفضل من رأيك إلا أنه فيه غلظة. فقال أبو بكر: ذلك لأنه يراني رقيقاً، ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيراً مما هو عليه، وقد رمقته فكنت إذا غضبت على رجل أراني الرضاء عنه، وإذا لنت له أراين الشدة عليه. ودعا عثمان بن عفان وقال له: أخبرني عن عمر. فقال: سريرته خير من علانيته، وليس فينا مثله. فقال أبو بكر لهما: لا تذكرا مما قلت لكما شيئاً، ولو تركته ما عدوت عثمان، والخيرة له أن لا يلي من أموركم شيئاً، ولوددت أني كنت من أموركم خلواً وكنت فيمن مضى من سلفكم.
    ودخل طلحة بن عبيد الله على أبي بكر فقال: استخلفت على الناس عمر وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه، وكيف به إذا خلا بهم وأنت لاقٍ ربك فسائلك عن رعيتك! فقال أبو بكر: أجلسوني، فأجلسوه، فقال: أبالله تخوفني! إذا لقيت ربي فسألني قلت: استخلفت على أهلك خير أهلك.
    ثم إن أبا بكر أحضر عثمان بن عفان خالياً ليكتب عهد عمر، فقال له: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين، أما بعد. ثم أغمي عليه، فكتب عثمان: أما بعد فإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ولم آلكم خيراً. ثم أفاق أبو بكر فقال: اقرأ علي. فقرأ عليه، فكبر أبو بكر وقال: اراك خفت أن يختلف الناس إن مت في غشيتي. قال: نعم. قال: جزاك الله خيراً عن الإسلام وأهله.
    فلما كتب العهد أمر به أن يقرأ على الناس، فجمعهم وأرسل الكتاب مع مولى له ومعه عمر، فكان عمر يقول للناس: أنصتوا واسمعوا لخليفة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يألكم نصحاً. فسكن الناس، فلما قرىء عليهم الكتاب سمعوا وأطاعوا، وكان أبو بكر أشرف على الناس وقال: أترضون بمن استخلفت عليكم؟ فإني ما استخلفت عليكم ذا قرابة، وإني قد استخلفت عليكم عمر فاسمعوا له وأطيعوا، فإني والله ما ألوت من جهد الرأي. فقالوا: سمعنا وأطعنا. ثم أحضر أبو بكر عمر فقال له: إني قد استخلفتك على أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأوصاه بتقوى الله ثم قال: يا عمر إن لله حقاً بالليل لا يقبله في النهار، وحقاً في النهار لا يقبله بالليل، وإنه لا يقبل نافلة حتى تؤدي الفريضة، ألم تر يا عمر أنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق وثقله عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه غداً إلا حق أن يكون ثقيلاً. ألم تر يا عمر أنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل وخفته عليهم، وحق لميزان أن يوضع فيه غداً إلا باطل أن يكون خفيفاً. ألم تر يا عمر أنما نزلت آية الرخاء مع آية الشدة وآية الشدة مع آية الرخاء ليكون المؤمن راغباً راهباً، لا يرغب رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له، ولا يرهب رهبةً يلقي فيها بيديه. أو لم تر يا عمر أنما ذكر أهل النار بأسوإ أعمالهم فإذا ذكرتهم قلت إني لأرجو أن لا أكون منهم، وأنه إنما ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم لأنه يجاوز لهم ما كان من سيء فإذا ذكرتهم قلت أين عملي من أعمالهم؟ فإن حفظت وصيتي فلا يكونن غائب أحب إليك من حاضر من الموت، ولست بمعجزه.
    وتوفي أبو بكر فلما دفن صعد عمر بن الخطاب فخطب الناس ثم قال: (إنما مثل العرب مثل جمل آنف اتبع قائده فلينظر قائده حيث يقوده، وأما أنا فورب الكعبة لأحملنكم على الطريق)! وكان أول كتاب كتبه إلى أبي عبيدة بن الجراح بتولية جند خالد وبعزل خالد لأنه كان عليه ساخطاً في خلافة أبي بكر كلها لوقعته بابن نويرة وما كان يعمل في حربه، وأول ما تكلم به عزل خالد وقال: لا يلي لي عملاً أبداً، وكتب إلى أبي عبيدة: إن أكذب خالد نفسه فهو الأمير على ما كان عليه، وإن لم يكذب نفسه فأنت الأمير على ما هو عليه، وانزع عمامته عن رأسه وقاسمه ماله. فذكر ذلك لخالد، فاستشار أخته فاطمة، وكانت عند الحارث بن هشام، فقالت له: والله لا يحبك عمر أبداً وما يريد إلا أن تكذب نفسك ثم ينزعك. فقبل رأسها وقال: صدقت؛ فأبى أن يكذب نفسه، فأمر أبو عبيدة فنزع عمامة خالد وقاسمه ماله، ثم قدم خالد على عمر بالمدينة، وقيل: بل هو أقام بالشام مع المسلمين، وهو أصح.
    ● [ ذكر فتح دمشق ] ●

    قيل: ولما هزم أهل اليرموك استخلف أبو عبيدة على اليرموك بشير ابن كعب الحميري، وسار حتى نزل بالصفر، فأتاه الخبر أن المنهزمين اجتمعوا بفحل، وأتاه الخبر أيضاً بأن المدد قد أتى أهل دمشق من حمص، فكتب إلى عمر في ذلك، فأجابه عمر يأمره بأن يبدأ بدمشق فإنها حصن الشام وبيت ملكهم، وأن يشغل أهل فحل بخيل تكون بإزائهم، وإذا فتح دمشق سار إلى فحل، فإذا فتحت عليهم سار هو وخالد إلى حمص وترك شرحبيل ابن حسنة وعمراً بالأردن وفلسطين.
    فأرسل أبو عبيدة إلى فحل طائفة من المسلمين فنزلوا قريباً منها، وبثق الروم الماء حول فحل فوحلت الأرض، فنزل عليها المسلمون، فكان أول محصور بالشام أهل فحل ثم أهل دمشق.
    وبعث أبو عبيدة جنداً فنزلوا بين حمص ودمشق، وأرسل جنداً آخر فكانوا بين دمشق وفلسطين، وسار أبو عبيدة وخالد فقدموا على دمشق وعليها نسطاس، فنزل أبو عبيدة على ناحية وخالد على ناحية وعمرو على ناحية، وكان هرقل قريب حمص، فحصرهم المسلمون سبعين ليلة حصاراً شديداً وقاتلوهم بالزحف والمجانيق وهم معتصمون بالمدينة يرجعون الغياث، وجاءت خيول هرقل مغيثة دمشق فمنعتها خيول المسلمين التي عند حمص، فخذل أهل دمشق وطمع فيهم المسلمون.
    وولد للبطريق الذي على أهلها مولود فصنع طعاماً فأكل القوم وشربوا وتركوا مواقفهم، ولا يعلم بذلك أحد من المسلمين إلا ما كان من خالد، فإنه كان لا ينام ولا ينيم ولا يخفى عليه من أمورهم شيء عيونه ذكية، وهو معني بما يليه، وكان قد اتخذ حبالاً كهيئة السلاليم وأوهاقاً، فلما أمسى ذلك اليوم نهد هو ومن معه من جنده الذين قدم عليهم وتقدمهم هو والقعقاع بن عمرو ومذعور بن عدي وأمثاله وقالوا: إذا سمعتم تكبيراً على السور فارقوا إلينا واقصدوا الباب. فلما وصل هو وأصحابه إلى السور ألقوا الحبال فعلق بالشرف منها حبلان، فصعد فيهما القعقاع ومذعور وأثبتا الحبال بالشرف، وكان ذلك المكان أحصن موضع بدمشق وأكثره ماء وأشده مدخلاً، فصعد المسلمون ثم انحدر خالد وأصحابه وترك بذلك المكان من يحميه وأمرهم بالتكبير، فكبروا، فأتاهم المسلمون إلى الباب وإلى الحبال، وانتهى خالد إلى من يليه فقتلهم وقصد الباب فقتل البوابين، وثار أهل المدينة لا يدرون ما الحال، وتشاغل أهل كل ناحية بما يليهم، وفتح خالد الباب وقتل كل من عنده من الروم.
    فلما رأى الروم ذلك قصدوا أبا عبيدة وبذلوا له الصلح، فقبل منهم وفتحوا له الباب وقالوا له: ادخل وامنعنا من أهل ذلك الجانب، ودخل أهل كل باب بصلح مما يليهم. ودخل خالد عنوةً، فالتقى خالد والقواد في وسطها، هذا قتلاً ونهباً وهذا صفحاً وتسكيناً، فأجروا ناحية خالد مجرى الصلح، وكان صلحهم على المقاسمة، وقسموا معهم للجنود التي عند فحل وعند حمص وغيرهم ممن هو ردء للمسلمين.
    وأرسل أبو عبيدة إلى عمر بالفتح، فوصل كتاب عمر إلى أبي عبيدة يأمره بإرسال جند العراق نحو العراق إلى سعد بن أبي وقاص، فأرسلهم وأمر عليهم هاشم بن عتبة المرقال، وكانوا قد قتل منهم، فأرسل أبو عبيدة عوض من قتل، وكان ممن ارسل الأشتر وغيره، وسار أبو عبيدة إلى فحل.
    ● [ ذكر غزوة فحلف ] ●

    لما فتحت دمشق سار أبو عبيدة إلى فحل واستخلف على دمشق يزيد ابن أبي سفيان، وبعث خالداً على المقدمة، وعلى الناس شرحبيل بن حسنة، وكان على المجنبتين أبو عبيدة وعمرو بن العاص، وعلى الخيل ضرار بن الأزور، وعلى الرجال عياض بن غنم، وكان أهل فحل قد قصدوا بيسان، فهم بها، فنزل شرحبيل بالناس فحلاً، وبينهم وبين الروم تلك المياه والأوحال، وكتبوا إلى عمر، وكانت العرب تسمي تلك الغزاة ذات الردغة وبيسان وفحل. وأقام الناس ينتظرون كتاب عمر، فاغترهم الروم فخرجوا وعليهم سقلار بن مخراق، فأتوهم والمسلمون حذرون، وكان شرحبيل لا يبيت ولا يصبح إلا على تعبية. فلما هجموا على المسلمين لم يناظروهم فاقتتلوا أشد قتال كان لهم ليلتهم ويومهم إلى الليل، وأظلم الليل عليهم وقد حاروا، فانهزم الروم وهم حيارى وقد أصيب رئيسهم سقلار والذي يليه فيهم نسطورس، وظفر المسلمون بهم وركبوهم، ولم تعرف الروم مأخذهم، فانتهت بهم الهزيمة إلى الوحل فركبوه، ولحقهم المسلمون فأخذوهم ولا يمنعون يدلامس فوخزوهم بالرماح، فكانت الهزيمة بفحل والقتل بالرداغ، فأصيب الروم وهم ثمانون ألفاً لم يفلت منهم إلا الشريد، وقد كان الله يصنع للمسلمين وهم كارهون، كرهوا البثوق والوهل، فكانت عوناً لهم على عدوهم وغنموا أموالهم فاقتسموها. وانصرف أبو عبيدة بخالد ومن معه إلى حمص.
    وممن قتل في هذه الحرب السائب بن الحارث بن قيس بن عدي السهمي، له صحبة.
    فحل بكسر الفاء، وسكون الحاء المهملة، وآخره لام.
    ● [ ذكر فتح بلاد ساحل دمشق ] ●

    لما استخلف أبو عبيدة يزيد بن أبي سفيان على دمشق وسار إلى فحل سار يزيد إلى مدينة صيدا وعرقة وجبيل وبيروت، وهي سواحل دمشق، على مقدمته أخوه معاوية، ففتحها فتحاً يسيراً وجلا كثيرٌ من أهلها؛ وتولى فتح عرقة معاوية بنفسه في ولاية يزيد. ثم إن الروم غلبوا على بعض هذه السواحل في آخر خلافة عمر وأول خلافة عثمان، فقصدهم معاوية ففتحها ثم رمها وشحنها بالمقاتلة وأعطاهم القطائع.
    ولما ولي عثمان الخلافة وجمع لمعاوية الشام وجه معاوية سفيان بن مجيب الأزدي إلى طرابسل، وهي ثلاث مدن مجتمعة، ثم بنى في مرج على أميال منها حصناً سمي حصن سفيان وقطع المادة عن أهلها من البر والبحر وحاصرهم. فلما اشتد عليهم الحصار اجتمعوا في أحد الحصون الثلاثة وكتبوا إلى ملك الروم يسألونه أن يمدهم أو يبعث إليهم بمراكب يهربون فيها إلى بلاد الروم، فوجه إليهم بمراكب كثيرة ركبوا فيها ليلاً وهربوا. فلما أصبح سفيان، وكان يبيت هو والمسلمون في حصنه ثم يغدو على العدو، وجد الحصن خالياً فدخله وكتب بالفتح إلى معاوية، فأسكنه معاوية جماعة كثيرة من اليهود، وهو الذي فيه المينا اليوم، ثم بناه عبد الملك بن مروان وحصنه، ثم نقض أهله أيام عبد الملك ففتحه ابنه الوليد في زمانه.
    ● [ ذكر فتح بيسان وطبرية ] ●

    لما قصد أبو عبيدة حمص من قحل أرسل شرحبيل ومن معه إلى بيسان فقاتلوا أهلها، فقتلوا منهم خلقاً كثيراً، ثم صالحهم من بقي على صلح دمشق فقبل ذلك منهم. وكان أبو عبيدة قد بعث بالأعور إلى طربية يحاصرها، فصالحه أهلها على صلح دمشق أيضاً وأن يشاطروا المسلمين المنازل، فنزلها القواد وخيولها وكتبوا بالفتح إلى عمر.
    قال أبو جعفر: وقد اختلفوا في أي هذه الغزوات كان قبل الأخرى، فقيل ما ذكرنا، وقيل: إن المسلمين لما فرغوا من أجنادين اجتمع المنهزمون بفحل فقصدها المسلمون فظفروا بها.
    ثم لحق المنهزمون من فحل بدمشق فقصدها المسلمون فحاصروها وفتحوها، وقدم كتاب عمر بن الخطاب بعزل خالد وولاية أبي عبيدة وهم محاصرون دمشق، فلم يعرفه أبو عبيدة ذلك حتى فرغوا من صلح دمشق وكتب الكتاب باسم خالد وأظهر أبو عبيدة بعد ذلك عزله، وكانت فحل في ذي القعدة سنة ثلاث عشرة، وفتح دمشق في رجب سنة أربع عشرة، وقيل: إن وقعة اليرموك كانت سنة خمس عشرة، ولم تكن للروم بعدها وقعة، وإنما اختلفوا لقرب بعض ذلك من بعض.
    ذكر خبر المثنى بن حارثة
    وأبي عبيد بن مسعود

    قد ذكرنا قدوم المثنى بن حارثة الشيباني من العراق على أبي بكر، ووصية أبي بكر عمر بالمبادرة إلى إرسال الجيوش مع؛ فلما أصبح عمر من الليلة التي مات فيها أبو بكر كان أول ما عمل أن ندب الناس مع المثنى بن حارثة الشبياني إلى أهل فارس، ثم بايع الناس، ثم ندب الناس وهو يبايعهم ثلاثاً ولا ينتدب أحد إلى فارس، وكانوا أثقل الوجوه على المسلمين وأكرهها إليهم لشدة سلطانهم وشوكتهم وقهرهم الأمم، فلما كان اليوم الرابع ندب الناس إلى العراق، فكان أول منتدب أبو عبيد بن مسعود الثقفي، وهو والد المختار، وسعد بن عبيد الأنصاري، وسليط بن قيس، وهو ممن شهد بدراً، وتتابع الناس.
    وتكلم المثنى بن حارثة فقال: أيها الناس لا يعظمن عليكم هذا الوجه، فإنا قد فتحنا ريف فارس وغلبناهم على خير شقي السواد ونلنا منهم واجترأنا عليهم، ولنا إن شاء الله ما بعدها. فاجتمع الناس، فقيل لعمر: أمر عليهم رجلاً من السابقين من المهاجرين أو الأنصار. قال: لا والله لا أفعل، إنما رفعهم الله تعالى بسبقهم ومسارعتهم إلى العدو، فإذا فعل فعلهم قوم وتثاقلوا كان الذين ينفرون خفافاً وثقالاً ويسبقون إلى الرفع أولى بالرئاسة منهم، والله لا أؤمر عليهم إلا أولهم انتداباً! ثم دعا أبا عبيد، وسعداً وسليطاً، وقال لهما: لو سبقتماه لوليتكما ولأدركتما بها إلى ما لكما من السابقة، فأمر ابا عبيد على الجيش وقال له: اسمع من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأشركهم في الأمر ولا تجتهد مسرعاً حتى تتبين، ولم يمنعني أن أؤمر سليطاً إلا سرعته إلى الحرب، وفي التسرع إلى الحرب ضياع إلا عن بيان، فإنه لا يصلحها إلا المكيث. وأوصاه بجنده. فكان بعث أبي عبيد أول جيش سيره عمر، ثم بعده سير يعلى بن منية إلى اليمن وأمره بإجلاء أهل نجران بوصية رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأن لا يجتمع بجزيرة العرب دينان.
    ● [ ذكر خبر النمارق ] ●

    فسار أبو عبيدة الثقفي وسعد بن عبيد وسليط بن قيس الأنصاريان والمثنى بن حارثة الشيباني أحد بني هند من المدينة، وأمر عمر المثنى بالتقدم إلى أن يقدم عليه أصحابه، وأمرهم باستنفار من حسن إسلامه من أهل الردة. ففعلوا ذلك، وسار المثنى فقدم الحيرة، وكانت الفرس تشاغلت عن المسلمين بموت شهربراز حتى اصطلحوا على سابور بن شهريار بن أردشير، فثارت به آزرميدخت فقتلته وقتلت الفرخزاد وملكت بوران، وكانت عدلاً بين الناس حتى يصطلحوا، فأرسلت إلى رستم بن الفرخزاد بالخبر وتحثه على السير، وكان على فرج خراسان، فأقبل لا يلقى جيشاً لآزرميدخت إلا هزمه حتى دخل المدائن، فاقتتلوا، وهزم سياوخش وحصره وآزرميدخت بالمدائن. ثم افتتحها رستم وقتل سياوخش وفقأ عين آزرميدخت، ونصب بوران على أن تملكه عشر سنين ثم يكون الملك في آل كسرى إن وجدوا من غلمانهم أحداً وإلا ففي نسائهم، ودعت مرازبة فارس وأمرتهم أن يسمعوا له ويطيعوا، وتوجته، فدانت له فارس قبل قدوم أبي عبيد. وكان منجماً حسن المعرفة به وبالحوادث، فقال له بعضهم: ما حملك على هذا الأمر وأنت ترى ما ترى؟ قال: حب الشرف والطمع.
    ثم قدم المثنى إلى الحيرة في عشر، وقدم أبو عبيد بعده بشهر. فكتب رستم إلى الدهاقين أن يثوروا بالمسلمين، وبعث في كل رستاق رجلاً يثور بأهله، فبعث جابان إلى فرات بادقلي، وبعث نرسي إلى كسكر ووعدهم يوماً، وبعث جنداً لمصادمة المثنى. وبلغ المثنى الخبر فحذر فضم إليه مسالحه، وعجل جابان ونزل النمارق، وثاروا وتوالوا على الخروج، وخرج أهل الرساتيق من أعلى الفرات إلى أسفله، وخرج المثنى من الحيرة فنزل خفان لئلا يؤتى من خلفه بشيء يكرهه، وأقام حتى قدم عليه أبو عبيد. فلما قدم لبث أياماً يستريح هو وأصحابه، واجتمع إلى جابان بشر كثير، فنزل النمارق، وسار إليه أبو عبيد فجعل المثنى على الخيل، وكان على مجنبتي جابان جشنس ماه ومردانشاه، فاقتتلوا بالنمارق قتالاً شديداً، فهزم الله أهل فارس وأسر جابان، أسره مطر بن فضة التيمي، وأسر مردانشاه، وأسره أكتل بن شماخ العكلي فقتله.
    وأما جابان فإنه خدع مطراً وقال له: هل لك أن تؤمنني وأعطيك غلامين أمردين خفيفين في عملك وكذا وكذا؟ ففعل، فخلى عنه، فأخذه المسلمون وأتوا به أبا عبيد وأخبروه أنه جابان وأشاروا عليه بقتله. فقال: إني أخاف الله أن أقتله وقد آمنه رجل مسلم والمسلمون كالجسد الواحد، ما لزم بعضهم فقد لزم كلهم، وتركوه. وأرسل في طلب المنهزمين حتى أدخلوهم عسكر نرسي وقتلوا منهم.
    أكتل بفتح الهمزة، وسكون الكاف، وفتح التاء المثناة باثنتين من فوقها، وفي آخره لام.
    ● [ ذكر وقعة السقاطية بكسكر ] ●

    ولحق المنهزمون نحو كسكر وبها نرسي، وهو ابن خالة الملك، وكان له النرسيان، وهو نوع من التمر يحميه، لا يأكله إلا ملك الفرس أو من أكرموه بشيء منه، ولا يغرسه غيرهم، واجتمع إلى النرسي الفالة، وهو في عسكره، فسار أبو عبيد إليهم من النمارق فنزل على نرسي بكسكر، وكان المثنى في تعبيته التي قاتل فيها بالنمارق، وكان على مجنبتي نرسي بندويه وتيرويه ابنا بسطام خال الملك، ومعه أهل باروسما والزوابي. ولما بلغ الخبر بوران ورستم بهزيمة جابان بعثا الجالينوس إلى نرسي فلحقه قبل الحرب، فعاجلهم أبو عبيد، فالتقوا أسفل من كسكر بمكان يدعى السقاطية، فاقتتلوا قتالاً شديداً ثم انهزمت فارس وهرب نرسي وغلب المسلمون على عسكره وأرضه وجمعوا الغنائم، فرأى أبو عبيد من الأطعمة شيئاً كثيراً فنفله من حوله من العرب، وأخذوا النرسيان فأطعموه الفلاحين وبعثوا بخمسه إلى عمر وكتبوا إليه: (إن الله أطعمنا مطاعم كانت الأكاسرة تحميها وأحببنا أن تروها لتشكروا إنعام الله وإفضاله).
    وأقام أبو عبيد وبعث المثنى إلى باروسما، وبعث والقاً إلى الزوابي، وعاصماً إلى نهر جوبر، فهزموا من كان تجمع وأخربوا وسبوا أهل زندورد وغيرها، وبذل لهم فروخ وفراونداد عن أهل باروسما والزوابي وكسكر الجزاء معجلاً، فأجابوا إلى ذلك وصاروا صلحاً، وجاء فروخ وفراوندد إلى أبي عبيد بأنواع الطعام والأخبصة وغيرها، فقال: هل أكرمتم الجند بمثلها؟ فقالوا: لم يتيسر ونحن فاعلون، وكانوا يتربصون قدوم الجالينوس. فقال أبو عبيد: لا حاجة لنا فيه، بئس المرء أبو عبيد إن صحب قوماً من بلادهم استأثر عليهم بشيء، ولا والله لا آكل ما أتيتم به ولا مما أفاء الله إلا مثل ما يأكل أوساطهم. فلما هزم الجالينوس أتوه بالأطعمة أيضاً، فقال: ما آكل هذا دون المسلمين. فقالوا له: ليس من أصحابك أحد إلا وقد أتي بمثل هذا؛ فأكل حينئذٍ.
    ● [ ذكر وقعة الجالينوس ] ●

    ولما بعث رستم الجالينوس أمره أن يبدأ بنرسي ثم يقاتل أبا عبيد، فبادره أبو عبيد إلى نرسي فهزمه، وجاء الجالينوس فنزل بباقسياثا من باروسما، فسار إليه أبو عبيد، وهو على تعبيته، فالتقوا بها، فهزمهم المسلمون وهرب الجالينوس وغلب أبو عبيد على تلك البلاد، ثم ارتحل حتى قدم الحيرة، وكان عمر قد قال له: إنك تقدم على أرض المكر والخديعة والخيانة والجبرية، تقدم على قوم تجرأوا على الشر فعلموه وتناسوا الخير فجهلوه، فانظر كيف تكون، واحرز لسانك ولا تفشين سرك، فإن صاحب السر ما يضبطه متحصن ولا يؤتى من وجه يكرهه، وإذا ضيعه كان بمضيعة.
    ذكر وقعة قس الناطف ويقال لها الجسر ويقال المروحةوقتل أبي عبيد بن مسعود ولما رجع الجالينوس إلى رستم منهزماً ومن معه من جنده قال رستم: أي العجم أشد على العرب؟ قال: بهمن جاذويه المعروف بذي الحاجب، وإنما قيل له ذو الحاجب لأنه كان يعصب حاجبيه بعصابة ليرفعهما كبراً. فوجهه ومعه فيلة ورد الجالينوس معه وقال لبهمن: إن انهزم الجالينوس ثانيةً فاضرب عنقه. فأقبل بهمن جاذويه ومعه درفش كابيان راية كسرى، وكانت من جلود النمر، عرض ثمانية أذرع، وطول اثني عشر ذراعاً، فنزل بقس الناطف. وأقبل أبو عبيد فنزل بالمروحة، فرأت دومة، امرأته أم المختار ابنه، أن رجلاً نزل من الساء بإناء فيه شراب، فشرب أبو عبيد ومعه نفر، فأخبرت بها أبا عبيد فقال: لهذه إن شاء الله الشهادة! وعهد إلى الناس فقال: إن قتلت فعلى الناس فلان، فإن قتل فعليهم فلان، حتى أمر الذين شربوا من الإناء، ثم قال: فإن قتل فعلى الناس المثنى.
    وبعث إليه بهمن جاذويه: إما أن تعبر إلينا وندعكم والعبور، وإما أن تدعونا نعبر إليكم. فنهاه الناس عن العبور، ونها سليط أيضاً، فلج وترك الرأي وقال: لا يكونوا أجرأ على الموت منا. فعبر إليهم على جسر عقده ابن صلوبا للفريقين، وضاقت الأرض بأهلها واقتتلوا، فلما نظرت الخيول إلى الفيلة والخيل عليها التجافيف رأت شيئاً منكراً لم تكن رأت مثله، فجعل المسلمون إذا حملوا عليهم لم تقدم عليهم خيولهم، وإذا حملت الفرس على المسلمين بالفيلة والجلاجل فرقت خيولهم وكراديسهم ورموهم بالنشاب. واشتد الأمر بالمسلمين، فترجل أبو عبيد والناس ثم مشوا إليهم ثم صافحوهم بالسيوف، فجعلت الفيلة لا تحمل على جماعة إلا دفعتهم، فنادى أبو عبيد: احتوشوا الفيلة واقطعوا بطانها واقلبوا عنها أهلها، ووثب هو على الفيل الأبيض فقطع بطانه ووقع الذين عليه، وفعل القوم مثل ذلك فما تركوا فيلاً إلا حطوا رحله وقتلوا أصحابه. وأهوى الفيل لأبي عبيد فضربه أبو عبيد بالسيف وخبطه الفيل بيده فوقع فوطئه الفيل وقام عليه. فلما بصر به الناس تحت الفيل خشعت أنفس بعضهم، ثم أخذ اللواء الذي كان أمره بعده فقاتل الفيل حتى تنحى عن أبي عبيد، فأخذه المسلمون فأحرزوه، ثم قتل الفيل الأمير الذي بعد أبي عبيد وتتابع سبعة أنفس من ثقيف كلهم يأخذ اللواء ويقاتل حتى يموت، ثم أخذ اللواء المثنى فهرب عنه الناس.
    فلما رأى عبد الله بن مرثد الثقفي ما لقي أبو عبيد وخلفاؤه وما يصنع الناس بادرهم إلى الجسر فقطعه وقال: يا أيها الناس موتوا على ما مات عليه أمراؤكم أو تظفروا! وحاز المشركون المسلمين إلى الجسر، فتواثب بعضهم إلى الفرات فغرق من لم يصبر وأسرعوا فيمن صبر، وحمى المثنى وفرسان من المسلمين الناس وقال: إنا دونكم فاعبروا على هينتكم ولا تدهشوا فإنا لن نزايل حتى نراكم من ذلك الجانب ولا تغرقوا نفوسكم فعبروا الجسر.
    وقاتل عروة بن زيد الخيل قتالاً شديداً وأبو محجن الثقفي، وقاتل أبو زبيد الطائي حمية للعربية، وكان نصرانياً قدم الحيرة لبعض أمره، ونادى المثنى: من عبر نجا. فجاءه العلوج فعقدوا الجس وعبر الناس.
    وكان آخر من قتل عند الجسر سليط بن قيس، وعبر المثنى وحمى جانبه، فلما عبر ارفض عنه أهل المدينة وبقي المثنى في قلة، وكان قد جرح وأثبت فيه حلق من درعه.
    وأخبر عمر عمن سار في البلاد من الهزيمة استحياء، فاشتد عليه وقال: اللهم إن كل مسلم في حل مني، أنا فئة كل مسلم، يرحم الله أبا عبيد! لو كان انحاز إلي لكنت له فئة.
    وهلك من المسلمين أربعة آلاف بين قتيل وغريق، وهرب الفان وبقي ثلاثة آلاف، وقتل من الفرس ستة آلاف. وأراد بهمن جاذويه العبور خلف المسلمين فأتاه الخبر باختلاف الفرس وأنهم قد ثاروا برستم ونقضوا الذي بينهم وبينه وصاروا فريقين: الفهلوج على رستم، وأهل فارس على الفيرزان، فرجع إلى المدائن.
    وكانت هذه الوقعة في شعبان.
    وكان فيمن قتل بالجسر عقبة وعبد الله ابنا قبطي بن قيس، وكانا شهدا أحداً، وقتل معهما أخوهما عباد ولم يشهد معهما أحداً، وقتل أيضاً قيس ابن السكن بن قيس أبو زيد الأنصاري، وهو بدري لا عقب له، وقتل يزيد بن قيس بن الحطيم الأنصاري، شهد أحداً، وفيها قتل أبو أمية الفزاري، له صحبة، والحكم بن مسعود أخو أبي عبيد، وابنه جبر بن الحكم ابن مسعود.
    ● [ ذكر خبر أليس الصغرى ] ●

    لما عاد ذو الحاجب لم يشعر جابان ومردانشاه بما جاءه من الخبر، فخرجا حتى أخذا بالطريق، وبلغ المثنى فعلهما فاستخلف على الناس عاصم بن عمرو وخرج في جريدة خيل يريدهما، فظنا أنه هارب فاعترضاه، فأخذهما أسيرين، وخرج أهل أليس على أصحابهما فأتوه بهم أسرى، وعقد لهم بها ذمة وقتلهما وقتل الأسرى. وهرب أبو محجن من أليس ولم يرجع مع المثنى بن حارثة.
    ● [ ذكر وقعة البويب ] ●

    لما بلغ عمر خبر وقعة أبي عبيد بالجسر ندب الناس إلى المثنى، وكان فيمن ندب بجيلة، وأمرهم إلى جرير بن عبد الله لأنه كان قد جمعهم من القبائل وكانوا متفرقين فيها، فسأل النبي، صلى الله عليه وسلم، أن يجمعهم فوعده ذلك، فلما ولي أبو بكر تقاضاه بما وعده النبي، صلى الله عليه وسلم، فلم يفعل، فلما ولي عمر طلب منه ذلك دعاه بالبينة فأقامها فكتب إلى عماله: إنه من كان ينسب إلى بجيلة في الجاهلية وثبت عليه في الإسلام فأخرجوه إلى جرير، ففعلوا ذلك، فلما اجتمعوا أمرهم عمر بالعراق، وأبوا إلا الشام، فعزم عمر على العراق وينفلهم ربع الخمس، فأجابوا، وسيرهم إلى المثنى بن حارثة، وبعث عصمة بن عبد الله الضبي فيمن تبعه إلى المثنى، وكتب إلى أهل الردة فلم يأته أحد إلا رمى به المثنى، وبعث المثنى الرسل فيمن يليه من العرب فتوافوا إليه في جمع عظيم. وكان فيمن جاءه أنس بن هلال النمري في جمع عظيم من النمر نصارى وقالوا: نقاتل مع قومنا.
    وبلغ الخبر رستم والفيرزان فبعثا مهران الهمذاني إلى الحيرة، فسمع المثنى ذلك وهو بين القادسية وخفان فاستبطن فرات بادقلى وكتب إلى جرير وعصمة وكل من أتاه ممداً له يعلمهم الخبر ويأمرهم بقصد البويب فهو الموعد، فانتهوا إلى المثنى وهو بالبويب ومهران بإزائه من وراء الفرات، فاجتمع المسلمون بالبويب مما يلي الكوفة اليوم، وأرسل مهران إلى المثنى يقول: إما أن تعبر إلينا وإما أن نعبر إليك. فقال المثنى: اعبروا. فعبر مهران فنزل على شاطىء الفرات، وعبى المثنى أصحابه، وكان في رمضان، فأمرهم بالإفطار ليقووا على عدوهم، فأفطروا. وكان على مجنبتي المثنى بشير بن الخصاصية وبسر بن أبي رهم، وعلى مجردته المعنى أخوه، وعلى الرجل مسعود أخوه، وعلى الردء مذعور، وكان على مجنبتي مهران بن الازاذبه مرزبان الحيرة ومردانشاه. وأقبل الفرس في ثلاثة صفوف مع كل صف فيل ورجلهم أمام فيلهم ولهم زجلٌ، فقال المثنى للمسلمين: إن الذي تسمعون فشل فالزموا الصمت.
    ودنوا من المسلمين وطاف المثنى في صفوفه يعهد إليهم وهو على فرسه الشموس، وإنما سمي بذلك للينه، وكان لا يركبه إلا إذا قاتل، فوقف على الرايات يحرضهم ويهزهم، ولكلههم يقول: إني لعامتكم. فيجيبونه بمثل ذلك، وأنصفهم من نفسه في القول والفعل، وخلط الناس في المحبوب والمكروه فلم يقدر أحد أن يعيب له قولاً ولا فعلاً وقال: إني مكبر ثلاثاً فتهيأوا ثم احملوا في الرابعة. فلما كبر أول تكبيرة أعجلتهم فارس وخالطوهم وركدت خيلهم وحربهم ملياً، فرأى المثنى خللاً في بني عجل فجعل يمد لحيته لما يرى منهم وأرسل إليهم يقول: الأمير يقرأ عليكم السلام ويقول: لا تفضحوا المسلمين اليوم. فقالوا: نعم؛ واعتدلوا. فضحك فرحاً.
    فلما طال القتال واشتد قال المثنى لأنس بن هلال النمري: إنك امرؤ عربي وإن لم تكن على ديننا، فإذا حملت على مهران فاحمل معي، فأجابه، فحمل المثنى على مهران فأزاله حتى دخل في ميمنته، ثم خالطوهم واجتمع القلبان وارتفع الغبار والمجنبات تقتل لا يستطيعون أن يفرغوا لنصر أميرهم لا المسلمون ولا المشركون، وارتث مسعود أخو المثنى يومئذٍ وجماعة من أعيان المسلمين، فلما أصيب مسعود تضعضع من معه، فقال: يا معشر بكر ارفعوا رايتكم رفعكم الله ولا يهولنكم مصرعي! وكان المثنى قال لهم: إذا رأيتمونا أصبنا فلا تدعوا ما أنتم فيه فإن الجيش ينكشف ثم ينصرف الزموا مصافكم وأغنوا غناء من يليكم.
    وأوجع قلب المسلمين في قلب المشركين، وقتل غلام نصراني من تغلب مهران واستوى على فرسه ثم انتمى، أنا الغلام التغلبي، أنا قتلت المرزبان فجعل المثنى سلبه لصاحب خيله، وكان التغلبي قد جلب خيلاً هو وجماعة من تغلب، فلما رأوا القتال قاتلوا مع العرب، قال: وأفنى المثنى قلب المشركين والمجنبات بعضها يقاتل بعضاً. فلما رأوا قد أزال القلب وأفنى أهله وثب مجنبات المسلمين على مجنبات المشركين وجعلوا يردون الأعاجم على أدبارهم، وجعل المثنى والمسلمون في القلب يدعون لهم بالنصر ويرسل إليهم من يذمرهم ويقول لهم: عاداتكم في أمثالهم، انصروا الله ينصركم، حتى هزموا الفرس، وسبقهم المثنى إلى الجسر وأخذ طريق الأعاجم، فافترقوا مصعدين ومنحدرين، وأخذتهم خيول المسلمين حتى قتلوهم وجعلوهم جثاً.
    فما كانت بين المسلمين والفرس وقعة أبقى رمة منها، بقيت عظام القتلى دهراً طويلاً، وكانوا يحرزون القتلى مائة ألف، وسمي ذلك اليوم الأعشار، أحصي مائة رجل قتل كل رجل منهم عشرة. وكان عروة بن زيد الخيل من أصحاب التسعة، وغالب الكناني وعرفجة الأزدي من أصحاب التسعة. وقتل المشركون فيما بين السكون اليوم وضفة الفرات وتبعهم المسلمون إلى الليل ومن الغد إلى الليل. وندم المثنى على أخذه بالجسر وقال: عجزت عجزة وقى الله شرها بمسابقتي إياهم إلى الجسر حتى أحرجتهم، فلا تعودوا أيها الناس إلى مثلها فإنها كانت زلة فلا ينبغي إحراج من لا يقوى على امتناع.
    ومات أناس من الجرحى، منهم: مسعود أخو المثنى، وخالد بن هلال، فصلى عليهم المثنى وقال: والله إنه ليهون وجدي أن صبروا وهدوا البويب ولم ينكلوا.
    وكان قد أصاب المسلمون غنماً ودقيقاً وبقراً فبعثوا به إلى عيال من قدم من المدينة وهم بالقوادس. وأرسل المثنى الخيل في طلب العجم فبلغوا السيب وغنموا من البقر والسبي وسائر الغنائم شيئاً كثيراً، فقسمه فيهم ونفل أهل البلاد وأعطى بجيلة ربع الخمس، وأرسل الذين تبعوا المنهزمين إلى المثنى يعرفونه سلامتهم وأنه لا مانع دون القوم ويستأذنوه في الإقدام، فأذن لهم، فأغاروا حتى بلغوا ساباط، وتحصن أهله منهم واستباحوا القرى ثم مخروا السواد فيما بينهم وبين دجلة لا يخافون كيداً ولا يلقون مانعاً، ورجعت مسالح العجم إليهم، وسرهم أن يرتكوا ما وراء دجلة.
    بسر بن أبر رهم بضم الباء الموحدة، وسكون السين المهملة.
    ● [ ذكر خبر الخنافس وسوق بغداد ] ●

    ثم خلف المثنى بالحيرة بشير بن الخصاصية، وسار يمخر السواد، وأرسل إلى ميسن ودستميسان وأذكى المسالح ونزل أليس، قرية من قرى الأنبار، وهذه الغزوة تدعى غزوة الأنبار الآخرة وغزوة أليس الآخرة.
    وجاء إلى المثنى رجلان أحدهما أنباري فدله على سوق الخنافس، والثاني حيري دله على بغداذ قال المثنى: أيتهما قبل صاحبتها. فقال: بينهما مسيرة أيام. قال: أيهما أعجل؟ قالا: سوق الخنافس يجتمع بها تجار مدائن كسرى والسواد وربيعة وقضاعة يخفرونهم. فركب المثنى وأغار على الخنافس يوم سوقها وبها خيلان من ربيعة وقضاعة، وعلى قضاعة رومانس بن وبرة، وعلى ربيعة السليل بن قيس وهم الخفراء، فانتسف السوق وما فيها وسلب الخفراء. ثم رجع فأتى الأنبار فتحصن أهلها منه، فلما عرفوه نزلوا إليه وأتوا بالأعلاف والزاد، وأخذ منهم الأدلاء على سوق بغداذ وأظهر لدهقان الأنبار أنه يريد المدائن، وسار منها إلى بغداذ ليلاً وعبر إليهم وصبحهم في أسواقهم فوضع السيف فيهم وأخذ ما شاء. وقال المثنى: لا تأخذوا إلا الذهب والفضة والحر من كل شيء. ثم عاد راجعاً حتى نزل بنهر السالحين بالأنبار، فسمع أصحابه يقولون: ما أسرع القوم في طلبنا، فخطبهم وقال: احمدوا الله وسلوه العافية وتناجوا بالبر والتقوى ولا تتناجوا بالإثم والعدوان، انظروا في الأمور وقدروها ثم تكلموا. إنه لم يبلغ النذير مدينتهم بعد، ولو بلغهم لحال الرعب بينهم وبين طلبكم. إن للغارات روعات تضعف القلوب يوماً إلى الليل، ولو طلبكم المحامون من رأي العين ما أدركوكم وأنتم على العراب حتى نتتهوا إلى عسكركم، ولو أدركوكم لقاتلتهم التماس الأجر ورجاء النصر، فثقوا بالله وأحسنوا به الظن، فقد نصركم في مواطن كثيرة.
    ثم سار بهم إلى الأنبار، وكان من خلفه من المسلمين يمخرون السواد ويشنون الغارات ما بين أسفل كسكر وأسفل الفرات، وجسوا مثقباً إلى عين التمر وفي أرض الفلاليج، والمثنى بالأنبار.
    ولما رجع المثنى من بغداذ إلى الأنبار بعث المضارب العجلي في جمع إلى الكباث وعليه فارس العناب التغلبي، ثم لحقهم المثنى فسار معهم، فوجدوا الكباث قد سار من كان به عنه ومعهم فارس العناب، فسار المسلمون خلفه فلحقوه وقد رحل من الكباث، فقتلوا في أخريات أصحابه وأكثروا القتل. فلما رجعوا إلى الأنبار سرح فرات بن حيان التغلبي وعتيبة بن النهاس وأمرهما بالغارة على أحياء من تغلب والنمر بصفين ثم اتبعهما المثنى واستخلف على الناس عمرو بن أبي سلمى الهجيمي. فلما دنوا من صفين فر من بها وعبروا الفرات إلى الجزيرة، وفني الزاد الذي مع المثنى وأصحابه، فأكلوا رواحلهم إلا ما لابد منه حتى جلودها، ثم أدركوا عيراً من أهل دبا وحوران فقتلوا من بها وأخذوا ثلاثة نفر من تغلب كانوا خفراء وأخذوا العير، فقال لهم: دلوني. فقال أحدهم: آمنوني على أهلي ومالي وأدلكم على حي من تغلب غدوت من عندهم اليوم. فآمنه المثنى وسار معهم يومه، فهجم العشي على القوم والنعم صادرة عن الماء وأصحابه جلوس بأفنية البيوت، فقتل المقاتلة وسبى الذرية واستاق الأموال، وكان التغلبيون بين ذي الرويحلة، فاشترى من كان مع الثنى من ربيعة السبايا بنصيبه من الفيء وأعتقوهم؛ وكانت ربيعة لا تسابي إذ العرب يتسابون في جاهليتهم.
    وأخبر المثنى أن جمهور من سلك البلاد قد انتجع شاطىء دجلة، فخرج المثنى وعلى مجنبتيه النعمان بن عوف ومطر الشيبانيان، وعلى مقدمته حذيفة بن محصن الغلفاني، فساروا في طلبهم فأدركوهم بتكريت، فأصابوا ما شاؤوا من النعم، وعاد إلى الأنبار. ومضى عتيبة وفرات ومن معهما حتى أغاروا على صفين وبها النمر وتغلب متساندين، فأغاروا عليهم حتى رموا طائفة منهم في الماء، فجعلوا ينادونهم: الغرق الغرق! وجعل عتيبة وفرات يذمران الناس ويناديانهم: تغريق بتحريق! يذكرانهم يوماً من أيام الجاهلية أحرقوا فيه قوماً من بكر بن وائل في غيضة من الغياض. ثم رجعوا إلى المثنى وقد غرقوهم، وقد بلغ الخبر عمر فبعث إلى عتيبة وفرات فاستدعاهما فسألهما عن قولهما، فأخبراه أنهما لم يفعلا ذلك على وجه طلب ذحل إنما هو مثلٌ فاستحلفهما فحلفا أنهما ما أرادا بذلك إلا المثل واعزاز الإسلام فصدقهما وردهما إلى المثنى.
    عتيبة بن النهاس، بالتاء المثناة من فوقها، والياء المثناة من تحتها، والباء الموحدة.
    ذكر الخبر عن الذي هيج أمر القادسية وملك يزدجردلما رأى أهل فارس ما يفعل المسلمون بالسواد قالوا لرستم والفيرزان، وهما على أهل فارس: لم يبرح بكما الاختلاف حتى وهنتما أهل فارس وأطمعتما فيهم عدوهم، ولم يبلغ من أمركما أن نقركما على هذا الرأي أن تعرضاها للهلكة؛ ما بعد بغداذ وساباط وتكريت إلا المدائن، والله لتجتمعان أو لنبدأن بكما قبل أن يشمت بنا شامت ثم نهلك وقد اشتفينا منكما. فقال الفيرزان ورستم لبوران ابنة كسرى: اكتبي لنا نساء كسرى وسرارية ونساء آل كسرى وسراريهم، ففعلت، فأحضروهن جميعهن وأخذوهن بالعذاب يستدلونهن على ذكر من أبناء كسرى، فلم يوجد عند واحدة منهن أحد، وقال بعضهن: لم يبق إلا غلام يدعى يزدجرد من ولد شهريار بن كسرى وأمه من أهل بادوريا. فأرسلوا إليها وطلبوه منها، وكانت قد أنزلته أيام شيري حين جمعهن فقتل الذكور، وأرسلته إلى أخواله، فلما سألوها عنه دلتهم عليه، فجاؤوا به فملكوه وهو ابن إحدى وعشرين سنة واجتمعوا عليه، فاطمأنت فارس واستوثقوا وتبارى المرازبة في طاعة ومعونته فسمى الجنود لكل مسلحة وثغر، فسمى جند الحيرة والأبلة والأنبار وغير ذلك.
    وبلغ ذلك من أمرهم واجتماعهم على يزدجرد المثنى والمسلمين، فكتبوا إلى عمر بن الخطاب بما ينتظرون من أهل السواد، فلم يصل الكتاب إلى عمر حتى كفر أهل السواد من كان له عهد ومن لم يكن له عهد، فخرج المثنى حتى نزل بذي قار ونزل الناس بالطف في عسكر واحد. ولما وصل كتاب المثنى إلى عمر قال: والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب! فلم يدع رئيساً ولا ذا رأي وذا شرف وبسطة ولا خطيباً ولا شاعراً إلا رماهم به، فرماهم بوجوه الناس وغررهم. وكتب عمر إلى المثنى ومن معه يأمرهم بالخروج من بين العجم والتفرق في المياه التي تلي العجم على حدود أرضكم وأرضهم وأن لا يدعوا في ربيعة ومضر وحلفائهم أحداً من أهل النجدات ولا فارساً إلا أحضروه إما طوعاً أو كرهاً. ونزل الناس بالجل وشراف إلى غضى، وهو حيال البصرة، وبسلمان، وبعضهم ينظر إلى بعض ويغيث بعضهم بعضاً، وذلك في ذي القعدة سنة ثلاث عشرة.
    وأرسل عمر في ذي الحجة من السنة مخرجه إلى الحج إلى عماله على العرب أن لا يدعوا من له نجدة أو فرس أو سلاح أو رأي إلا وجهوه إليه، فأما من كان على النصف ما بين المدينة والعراق فجاء إليه بالمدينة لما عاد من الحج، وأما من كان أقرب إلى العراق فانضم إلى المثنى بن حارثة، وجاءت أمداد العرب إلى عمر.
    وحج في هذه السنة عمر بن الخطاب بالناس وحج سنيه كلها.
    وكان عامل عمر على مكة هذه السنة عتاب بن أسيد فيما قال بعضهم، وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص، وعلى اليمن يعلى بن منية، وعلى عمان واليمامة حذيفة بن محصن، وعلى البحرين العلاء بن الحضرمي، وعلى الشام أبو عبيدة بن الجراح، وعلى فرج الكوفة وما فتح من أرضها المثنى ابن حارثة، وكان على القضاء فيما ذكر علي بن أبي طالب.
    وفي هذه السنة مات أبو كبشة مولى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقيل بعد ذلك. وفي خلافة أبي بكر مات سهل بن عمرو أخو سهيل، وهو من مسلمة الفتح. وفي خلافته مات الصعب بن جثامة الليثي. وفي أول خلافته مات ابنه عبد الله بن أبي بكر، وكان قد جرح في حصار الطائف ثم انتقض عليه جرحه فمات. وفي هذه السنة توفي الأرقم بن أبي الأرقم يوم مات أبو بكر، وهو الذي كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مستخفياً بداره بمكة أول ما أرسل.

    من بداية خلافة عمر إلى ختام سنة ثلاث عشرة Fasel10

    مختصر الكامل في التاريخ لابن الأثير
    منتدى نافذة ثقافية - البوابة
    من بداية خلافة عمر إلى ختام سنة ثلاث عشرة E110


      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة 19 أبريل 2024 - 3:39